مقال بقلم د/ ياسر حسان: تقييم الحروب بالميزان العسكري والاقتصادي

تقييم الحروب بالميزان العسكري والاقتصادي
تقييم الحروب بالميزان العسكري والاقتصادي

إذا كنت قويًّا عسكريًّا فلا بد أن تكون قويًا اقتصاديًّا بنفس ميزان قوتك العسكرية، بغير ذلك لا تستطيع أن تصمد طويلًا في حرب.


كان يعرف ذلك السادات وبنى حربه مع إسرائيل على هذا الأساس، في الصراع الروسي مع الغرب هناك خللًا كبيرًا في هذه المعيار.. أمريكا الأولى اقتصاديًا والأولى عسكريا، الصين الثانية اقتصاديًا والثالثة عسكريًا، اليابان الثالثة اقتصاديا والرابعة عسكريا، وألمانيا وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا جميعهم في العشر الأوائل اقتصاديا وعسكريا، بينما روسيا تأتي كثاني قوة عسكرية لكنها خارج العشر الأوائل اقتصاديًا، وتشعل حربًا ضد فريقًا يضم خمس دول من العشر الأوائل اقتصاديا وعسكريًا، ومثل هذا التفاوت الكبير يجعل الصراع صراعًا غير متكافئ ويضع روسيا في موقف صعب في حربها في أوكرانيا.

التفوق العسكري الروسي يحتاج إلى نصر حاسم وسريع لأن الاقتصاد أضعف بكثير من القوة العسكرية، وكل يوم يمر في هذا الصراع تكسب أوكرانيا وتخسر روسيا.

كان الغرب يعلم ذلك وأدخل روسيا إلى الفخ بسهولة، في أول يومين خرج الرئيس الأوكراني زيلينكسي يشكو تخلي العالم عنه واعتقدنا جميعًا كما اعتقد بوتين نفسه أنه في طريقة لنصر ساحق بل ومضحك على رئيس كوميدي، لكننا فوجئنا في اليوم الثالث بالدعم العسكري الأمريكي والأوروبي الكامل للجيش والرئيس الأوكراني.

أصبحت الرغبة الآن لدى الغرب هو توريط الروس في حرب مدن وشوارع، ومثل هذه الحروب تخسرها أقوى الجيوش، خسرها الروس في أفغانستان وخسرها الأمريكان أنفسهم في فيتنام.

مشاهد مثل توقف دبابة روسية في الطريق بسبب عدم وجود وقود وسط ضحكات مدنيين أوكرانيين، ومشهد سحب جرار أوكراني لمدرعة روسية والهرب بها، ومشاهد أسر جنود روس، كلها أصبحت مشاهد يومية معتادة.

وفي دولة تدار بحكم شمولي مثل روسيا قد لا نعلم كثيرًا عما يدور في الداخل، لكن المؤكد أن هناك رفضًا شعبيًا للحرب في عدة مدن، وأن هناك اعتقالات واسعة لمعارضين للحرب، بالإضافة إلى التصريحات المضحكة مثل التهديد بالرادع النووي واتهام الرئيس الأوكراني بالنازية، وفوق هذا هناك اقتصاد لا يستطيع تحمل حربا طويلة لا يفهمها الشعب الروسي ولا يقبلها أيضًا.

بالأمس كتب عدة مليارديرات روس عن رفضهم للحرب، وأعلنت البنوك الروسية أن سحب الأموال من الحسابات يحتاج إلى تحديد ميعاد مسبق معها، بالإضافة إلى هبوط الروبل وقرار المركزي الروسي رفع سعر الفائدة لخفض التضخم.

لا يري الروس أنفسهم قوى عظمى ولا يهتمون لذلك، فقط بوتين الذي ورث ترسانة نووية من كل دول الاتحاد السوفيتي السابق بما فيهم أوكرانيا التي تخلت عن ترسانتها النووية لروسيا. عاصر بوتين أربعة رؤوساء لفرنسا ومثلهم لبريطانيا ورغم ذلك لم يستطع بوتين طوال أكثر من عشرين عامًا أن يبني اقتصادًا صناعيا قويًا، ولم يستطع أن يتجاوز باقتصاد بلاده رغم إمكانياتها الكبيرة وشعبها العظيم حجم اقتصاد مدينة نيويورك، استطاع فقط أن يبني لنفسه نظام حكم منيعًا يسمح ببقائه مدى الحياة مدعومًا بترسانة عسكرية وعدة حلفاء من الجمهوريات القمعية المحيطة به.

بينما توسع الناتو بهدوء وثقة وفتح لدول الإتحاد السوفيتي السابق فرصًا لشراكة اقتصادية وتجارية واعدة، ولا أجد أفضل تعبير عن هذا الوضع الصعب لبوتين من كلمات الكاتب الكبير الأستاذ أنور الهواري حيث وصف الحالة الروسية "بأن بوتين يخوض معركة خاطئة من جذورها، لا هو الاتحاد السوفيتي، ولا هو القوة الموازنة للغرب، ولا هو القوة الآسيوية الصاعدة، وكان يكفيه أن يحفظ لبلده وزنها ومقامها الذي تستحقه ويكتفي بهذا القدر، ولا يورط نفسه وبلده في صراع صيني - غربي أكبر منه بكثير جداً".

الصراع حاليًا قد لا يقف عند أوكرانيا، بل قد يمتد ويشكل خطرًا على حكم بوتين نفسه في حالة طول أمد الحرب وارتفاع وتيرة الغضب والرفض الداخلي لها، ولا أستبعد في المستقبل في ظل رئيس روسي آخر غير بوتين أن تنضم روسيا نفسها إلى الاتحاد الأوروبي أو الناتو لتصبح دولة في وضعها الطبيعي كدولة قوية، لكن وسط عدة دول أخرى بحجم فرنسا أو إنجلترا، وتترك مكانها للعملاق الصيني القطب الحقيقي المنافس لأمريكا والصاعد بقوة.

 لست هنا بصدد الدفاع عن أمريكا أو الغرب ولا الانتقاص من روسيا، فكلهم بما فيهم روسيا ارتكبوا جرائم بحق شعوب كثيرة حول العالم، لكننا نقارن بين طموح جبهتين متنافستين الفارق بينهما أن أحدهما استعد لهذا الطموح ويمتلك القدرة على تحقيقه، بينما لم يستعد الآخر لوقف هذا الطموح ولا يمتلك القدرة الاقتصادية للصمود طويلًا ضده. انشغل قادة الغرب في دعم دولهم، في وقت انشغل بوتين لعقدين كاملين بتثبيت أركان حكمه لا بتثبيت دعائم دولته.