مقال بقلم د/ ياسر حسان: كيف ساعدت خطط التطعيم والدعم الاجتماعي في عودة اقتصاد أمريكا؟ وهل يمكن القياس عليها في العالم العربي؟

استطاعت أمريكا مند تولي بايدن دفة الحكم خلق أكثر من 900 ألف وظيفة
استطاعت أمريكا مند تولي بايدن دفة الحكم خلق أكثر من 900 ألف وظيفة

 
 

دائما ما أكرر أن الاقتصاد علم اجتماعي يمكن الاستفادة من تجاربه والقياس عليها، وتعتبر خطة الولايات المتحدة في مكافحة الوباء تجربة رائدة تستحق أن نعرفها وأن نتعلم من نجاحاتها وإخفاقاتها إن وجدت.


رسم التقرير الشهري عن التوظيف في الولايات المتحدة والذي نشر في إبريل الماضي صورة رائعة عن نمو أكبر اقتصاد في العالم، فقد استطاعت أمريكا مند تولي "بايدن" دفة الحكم خلق أكثر من 900 ألف وظيفة. ويعكس هذا الرقم -وهو الأقوى منذ أغسطس عام 2020- حالة الاقتصاد في الربع الأول من العام الحالي. بمجرد إلقاء نظرة على البيانات الاقتصادية للأسابيع الأخيرة حول كل نشاط، بدءًا من رواد المطاعم يوميًا إلى سلوك البحث على جوجل تشير جميعها إلى تسارع التعافي أكثر من ذي قبل بسبب حملة التطعيم القوية لإدارة "بايدن".

بالطبع التعافي السريع هو موضع ترحاب، لأن أكبر اقتصاد في العالم لا يزال بعيدًا عن ذروته التي كان عليها قبل الوباء وكان الضرر شديدًا عليه، حتى بعد الأرقام التي تعكس انخفاض معدلات البطالة، فما زال عدد العاملين أقل بـ 8 ملايين مقارنة بما كان عليه قبل الوباء. ويتركز فقدان الوظائف بين الفئات ذات الدخل المنخفض، وثلث الشركات الصغيرة لا تزال مغلقة، كما أن معدل الفقر أعلى مما كان عليه قبل أن يضرب كوفيد-19 خاصة بين العائلات السوداء. وقد يستمر تأثير إغلاق المدارس على تعليم الأطفال لعقود.

استطاعت أمريكا مند تولي "بايدن" دفة الحكم خلق أكثر من 900 ألف وظيفة

 تعد البيانات التي يطلق عليها مجازاً "البيانات عالية التردد" والتي ينشرها القطاع الخاص مفيدة إلى حد كبير في تحديد نقاط التحول الاقتصادية قبل أن يتم التقاطها من الأرقام الرسمية والتي يكون الوصول إليها أبطأ. في مارس وأبريل 2020 قبل وقت طويل من نشر الأرقام الرسمية أظهرت هذه البيانات أن الاقتصاد الأمريكي والعالمي كان يتدهور من الهاوية، لكن الآن وبعد مرور أكثر من عام فإنهم يشيرون إلى اقتصاد يعود بسرعة.

مكنت بيانات حركة التنقل بين المواطنين التي تقدمها "جوجل" مجلة "الإيكونيميست" من إنشاء مؤشر للنشاط الاقتصادي يقيس زيارات الأشخاص لأماكن العمل والمحطات ومنافذ البيع بالتجزئة ومواقع الترفيه. قبل ثلاثة أشهر كان المؤشر أقل بنسبة 30٪ من خط الأساس الذي كان عليه قبل انتشار الوباء في الأيام الأخيرة، الآن قفز المؤشر إلى 20٪ تحت خط الأساس وهو تحسن ملحوظ. تظهر بيانات أخرى عالية التردد نفس الاتجاهات، فمثلاً عدد الركاب الذين يسافرون عبر المطارات الأمريكية أخذ في الارتفاع بسرعة، كما راقب الاقتصاديون عن كثب إحصائيات من تطبيق "OpenTable"  وهي منصة حجز للمطاعم أن عدد رواد المطاعم في فبراير كان أقل بنسبة 48٪ عن المعدل الطبيعي. الآن في أبريل هو أقل بنسبة 18 ٪ فقط. إشغال الفنادق يتزايد بسرعة، كما أن المؤشرات عالية التردد الخاصة بنشاط التصنيع والخدمات آخذة في الارتفاع أيضًا.

يغامر الأمريكيون الآن بالخروج والاختلاط بأعداد أكبر، ويرجع ذلك بشكل كبير إلى حملة التلقيح الناجحة التي سمحت ببعض التخفيف من القيود الكبيرة. وعندما يغادر الناس المنزل يكون لديهم المال للإنفاق، هذا عدا الدعم المالي لوزارة الخزانة وقيمته 250 مليار دولار في شكل شيكات تحفيزية في الحسابات المصرفية للأفراد، مما أضاف 1.5 تريليون دولار من المدخرات الشخصية الإضافية (حوالي 10٪ من الإنفاق الاستهلاكي السنوي).

والبنوك تشير أن الإنفاق على بطاقات الدفع يقترب من مستواه السابق للوباء، فقد ارتفع إجمالي الإنفاق في آخر مارس الماضي بنحو 20٪ عن الشهر السابق له، والنتيجة هي أنه من المرجح أن تسجل أمريكا أرقام نمو إجمالي للناتج المحلي في الربع الثاني من عام 2021.

قدمت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تقريراً عن توقعاتها لما هو قادم باستخدام بيانات قياس فعلية مقدمة أيضا من "جوجل" تعكس تصرفات الناس وقت حدوثه في الوقت الفعلي، وذلك بهدف إنشاء قياسات أسبوعية للناتج المحلي الإجمالي لاقتصاديات مجموعة العشرين.

في الأسبوع الأخير من شهر مارس الماضي، كان الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي أقل بنسبة 4٪ تقريبًا مما كان سيحدث في حال غياب الوباء، وهذا هو المعدل الأفضل لأمريكا منذ أكثر من عام، وأفضل بكثير من معظم البلدان الغنية الأخرى بسبب خطط التطعيم الناجحة والدعم المادي للأسر وهو مالم يحدث في معظم دول العالم وخاصة العالم العربي، يتوقع العديد من الاقتصاديين أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6٪ أو أكثر في عام 2021، وهو معدل نمو لم تحققه أمريكا منذ عقود، وإذا حدث ذلك فلن يكون مفاجئًا إذا تحقق، فأمريكا تحقق فعلًا معدلات نمو شهرية في الوظائف بمقدار مليون أو أكثر في تقارير التوظيف المستقبلية. ويمكن أن يقترب معدل البطالة من معدل ما قبل الوباء قريبًا إلى حد كبير.

هل تستطيع أن تتوقع كيف سيكون حال اقتصاد بلدك؟ إذا عرفت سرعة وخطة التطعيم فيها، وما حجم الدعم الحكومي الدي قدمته حكومتك للأسر الفقيرة؟

وانخفض إجمالي حالات الإفلاس التجاري بنحو 15٪ عن العام السابق، وقد ساعد الدعم المالي الواسع الذي قدمته الحكومة الفيدرالية الشركات على سداد فواتيرها، بينما عرض العديد من الملاك امتيازات للإيجار، ومع ذلك هناك ما قد يعيق هذا النمو بسبب بعض "الندوب" الاقتصادية؛ حيث يشعر بعض الاقتصاديين بالقلق من أن الوباء قد أضر بالقدرة الإنتاجية لأمريكا. وإذا لم تعد العديد من الشركات التي أعلنت افلاسها، فلن يكون لدى العديد من الأمريكيين وظائف ليعودوا إليها حتى مع ازدهار الطلب.. حتى الآن لا يوجد ما يشير إلى اقتراب موجة من الإفلاس، ففي عام 2020 ظلت حالات الإفلاس منخفضة ولا تزال حتى الآن في عام 2021، لكن لا أحد يعرف ما إذا كانت سترتفع في الأشهر المقبلة أم لا، حين ينتهي الدعم المالي ويسعى أصحاب العقارات لتعويض خسائرهم.

العامل الثاني يتعلق بالمخاوف من عودة العدوى، على الرغم من الزخم وراء التطعيم، هناك مخاوف خاصة بشأن متغيرات فيروس كورونا فحالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد في أمريكا تتزايد الآن مرة أخرى. وأوقفت بعض الولايات مثل شيكاغو ونيوجيرسي إعادة الفتح مؤقتًا.. كل هذه المعوقات قد تبطئ النشاط قليلاً لكنها لن توقفه.

ويبقي السؤال من كل هذا المقال الطويل هل تستطيع أن تتوقع كيف سيكون حال اقتصاد بلدك؟ إذا عرفت سرعة وخطة التطعيم فيها، وما حجم الدعم الحكومي الدي قدمته حكومتك للأسر الفقيرة؟

بعض الدول تعتقد أن الدعم المالي هو إرهاق لميزانيتها، لكنه في الحقيقة يضيف إلى القوة الشرائية ومؤشر الإنفاق الاستهلاكي السنوي، وهو بالطبع يعود بالنفع على الاقتصاد الكلي للدولة.

وأخيراً هل تصدر الدول العربية أو تتعامل مع المؤشرات الحديثة للاقتصاد مثل مؤشر الإنفاق الاستهلاكي، والبيانات عالية التردد، وبيانات الواقع الفعلي، وقبل كل هذا هل سمع أحد عن دعم مالي حكومي للأسر أو الشركات المتعثرة في العالم العربي؟.